فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعلى (1)}
الافتتاح بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يسبح اسمَ ربه بالقول، يؤذن بأنه سيُلقي إليه عقبه بشارة وخيراً له وذلك قوله: {سنقرئك فلا تنسى} [الأعلى: 6] الآيات كما سيأتي ففيه براعة استهلال.
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.
والتسبيح: التنزيه عن النقائص وهو من الأسماء التي لا تضاف لغير اسم الله تعالى وكذلك الأفعال المشتقة منه لا ترفع ولا تنصب على المفعولية إلا ما هو اسم لله، وكذلك أسماء المصدر منه نحو: سبحان الله، وهو من المعاني الدينية، فالأشبه أنه منقول إلى العربية من العبرآنية وقد تقدم عند قوله تعالى: {ونحن نسبح بحمدك} في سورة البقرة (30).
وإذْ عُدِّي فعلُ الأمر بالتسبيح هنا إلى اسْم فقد تعين أن المأمور به قول دال على تنزيه الله بطريقة إجراء الأخبار الطيبة أو التوصيف بالأوصاف المقدسة لإِثباتها إلى ما يدل على ذاته تعالى من الأسماء والمعاني، ولما كان أقوالاً كانت متعلقة باسم الله باعتبار دلالته على الذات، فالمأمور به إجراء الأخبار الشريفة والصفات الرفيعة على الأسماء الدالة على الله تعالى من أعلام وصفات ونحوها، وذلك آيل إلى تنزيه المسمَّى بتلك الأسماء.
ولهذا يكثر في القرآن إناطة التسبيح بلفظ اسم الله نحو قوله: {فسبح باسم ربك العظيم} [الواقعة: 74] وقد تقدم ذلك في مبحث الكلام على البسملة في أول هذا التفسير.
فتسبيح اسم الله النطقُ بتنزيهه في الخُوَيصَّة وبينَ الناس بذكر يليق بجلاله من العقائد والأعمال كالسجود والحمد.
ويشمل ذلك استحضارَ الناطق بألفاظ التسبيح معانيَ تلك الألفاظ إذ المقصود من الكلام معناهـ.
وبتظاهُرِ النطق مع استحضار المعنى يتكرر المعنى على ذهن المتكلم ويتجدد ما في نفسه من تعظيم لله تعالى.
وأما تفكر العبد في عظمة الله تعالى وترديد تنزيهه في ذهنه فهو تسبيح لذات الله ومسمَّى اسمه ولا يسمى تسبيح اسم الله، لأن ذلك لا يجري على لفظ من أسماء الله تعالى، فهذا تسبيح ذات الله وليس تسبيحاً لاسمه.
وهذا ملاك التفرقة بين تعلق لفظ التسبيح بلفظ اسم الله نحو {سبح اسم ربك}، وبين تعلقه بدون اسم نحو {ومن الليل فاسجُد له وسبحه} [الإنسان: 26] ونحو {ويسبحونه وله يسجدون} [الأعراف: 206] فإذا قلنا: {اللَّه أحد} [الإخلاص: 1] أو قلنا: {هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام} [الحشر: 23] إلى آخر السورة كان ذلك تسبيحاً لاسمه تعالى، وإذا نفينا الإِلاهية عن الأصنام لأنها لا تخلق كما في قوله تعالى: {إن الذين تدعون من دون اللَّه لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له} [الحج: 73] كان ذلك تسبيحاً لذات الله لا لاسمه لأن اسمه لم يجر عليه في هذا الكلام إخبار ولا توصيف.
فهذا مناط الفرق بين استعمال {سبح اسم ربك} واستعمال {وسبحه} ومَآل الإطلاقين في المعنى واحد لأن كلا الإِطلاقين مراد به الإِرشاد إلى معرفة أن الله منزه عن النقائص.
واعلم أن مما يدل على إرادة التسبيح بالقول وجودَ قرينة في الكلام تقتضيه مثل التوقيت بالوقت في قوله تعالى: {وسبحوه بكرة وأصيلاً} [الأحزاب: 42] فإن الذي يكلف بتوقيته هو الأقوال والأفعال دون العقائد، ومثل تعدية الفعل بالباء مثل قوله تعالى: {وسبحوا بحمد ربهم} [السجدة: 15] فإن الحمد قول فلا يصاحب إلا قولاً مثله.
وتعريف: {اسم} بطريق الإضافة إلى {ربك} دون تعريفه بالإضافة إلى عَلَم الجلالة نحو: سبح اسمَ الله، لما يُشعر به وصف رب من أنه الخالق المدبر.
وأما إضافة (رب) إلى ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم فلتشريفه بهذه الإضافة وأن يكون له حظ زائد على التكليف بالتسبيح.
ثم أجري على لفظ {ربك} صفة {الأعلى} وما بعدها من الصلات الدالة على تصرفات قدرته، فهو مستحق للتنزيه لصفات ذاته ولِصفات إنعامه على الناس بخلقهم في أحسن تقويم، وهدايتهم، ورزقهم، ورزق أنعامهم، للإِيماء إلى موجب الأمر بتسبيح اسمه بأنه حقيق بالتنزيه استحقاقاً لذاته ولوصفه بصفة أنه خالق المخلوقات خلقاً يدل على العلم والحكمة وإتقان الصنع، وبأنه أنعم بالهدى والرزق الذين بهما استقامة حال البشر في النفس والجسد وأوثرت الصفات الثلاث الأول لما لها من المناسبة لغرض السورة كما سنبينه.
فلفظ {الأعلى} اسم يفيد الزيادة في صفة العلو، أي الارتفاع.
والارتفاع معدود في عرف الناس من الكمال فلا ينْسب العلوّ بدون تقييد إلا إلى شيء غير مذموم في العرف، ولذلك إذا لم يذكر مع وصف الأعلى مفضل عليه أفاد التفضيل المطلق كما في وصفه تعالى هنا.
ولهذا حكَى عن فرعون أنه قال: {أنا ربكم الأعلى} [النازعات: 24].
والعلوّ المشتقُّ منه وصفه تعالى: {الأعلى} علوّ مجازي، وهو الكمال التام الدائم.
ولم يعدَّ وصفه تعالى: {الأعلى} في عداد الأسماء الحسنى استغناء عن اسمه {العليُّ} لأن أسماء الله توقيفية فلا يعد من صفات الله تعالى بمنزلة الاسم إلا ما كثر إطلاقه إطلاقَ الأسماء، وهو أوغل من الصفات، قال الغزالي: والعلوّ في الرتبة العقلية مثل العلوّ في التدريجات الحسية، ومثال الدرجة العقلية، كالتفاوت بين السبب والمسبب والعلة والمعلول والفاعل والقابل والكامل والناقص اهـ.
وإيثار هذا الوصف في هذه السورة لأنها تضمنت التنويه بالقرآن والتثبيت على تلقيه وما تضمنه من التذكير وذلك لعلو شأنه فهو من متعلقات وصف العلوّ الإلهي إذ هو كلامه.
وهذا الوصف هو ملاك القانون في تفسير صفات الله تعالى ومحاملها على ما يليق بوصف الأعلى فلذلك وجب تأويل المتشابهات من الصفات.
وقد جُعل من قوله تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى} دعاء السجود في الصلاة إذ ورد أن يقول الساجد: سبحان ربي الأعلى، ليقرن أثر التنزيه الفعلي بأثر التنزيه القولي.
وجملة: {الذي خلق فسوى} اشتملت على وصفين: وصف الخلق ووصف تسويه الخلق، وحذف مفعول {خلق} فيجوز أن يقدر عامّاً، وهو ما قدره جمهور المفسرين، وروي عن عطاء، وهو شأن حذف المفعول إذا لم يدل عليه دليل، أي خلق كل مخلوق فيكون كقوله تعالى حكاية عن قول موسى: {ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} [طه: 50].
ويجوز أن يقدر خاصاً، أي خلق الإنسان كما قدره الزجاج، أو خلق آدم كما روي عن الضحاك، أي بقرينة قرن فعل {خلق} بفعل (سوى) قال تعالى: {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي} [الحجر: 29] الآية.
وعطف جملة: {فسوى} بالفاء دون الواو للإِشارة إلى أن مضمونها هو المقصود من الصلة وأن ما قبله توطئة له كما في قول ابن زيابة:
يا لهفَ زيَابةً للحارث الصّـ ** ـابحِ فالغَانِم فالآيب

لأن التلهف يحق إذا صبحهم فغنم أموالَهم وآب بها ولم يستطيعوا دفاعه ولا استرجاعه.
فالفاء من قوله: {فسوى} للتفريع في الذكر باعتبار أن الخلق مقدم في اعتبار المعتبر على التسويه، وإن كان حصول التسويه مقارناً لحصول الخلق.
والتسويه: تسويةُ ما خلقَه فإن حمل على العموم فالتسوية أنْ جعل كل جنس ونوع من الموجودات معادِلاً، أي مناسباً للأعمال التي في جبلته فاعوجاج زُبَانَى العقرببِ من تسويه خلقها لتدفع عن نفسها بها بسهولة.
ولكونه مقارناً للخلقة عطف على فعل {خلق} بالفاء المفيدة للتسبب، أي ترتَّبَ على الخلق تسويتُه.
والتقديرُ: وضْعُ المقدارِ وإيجادُه في الأشياء في ذواتها وقواها، يقال: {قدر} بالتضعيف و{قدر} بالتخفيف بمعنىً.
وقرأ الجمهور بالتشديد وقرأها الكسائي وحده بالتخفيف.
والمقدار: أصله كمية الشيء التي تُضبط بالذرع أو الكيل أو الوزن أو العَدّ، وأطلق هنا على تكوين المخلوقات على كيفيات منظّمة مطردة من تركيب الأجزاء الجسدية الظاهرة مثل اليدين، والباطنة مثل القلب، ومن إيداع القُوى العقلية كالحس والاستطاعة وحِيلَ الصناعة.
وإعادة اسم الموصول في قوله: {والذي قدر} وقوله: {والذي أخرج المرعى} مع إغناء حرف العطف عن تكريره، للاهتمام بكل صلة من هذه الصلات وإثباتها لمدلول الموصول وهذا من مقتضيات الإطناب.
وعطف قوله: {فهدى} بالفاء مثل عطف {فسوى}، فإن حمل {خلق} و{قدر} على عموم المفعول كانت الهداية عامة.
والقول في وجه عطف {فهدى} بالفاء مثل القول في عطف {فسوى}.
وعطف {فهدى} على {قدر} عطف المسبَّب على السبب أي فهدى كلَّ مقدر إلى ما قدر له فهداية الإنسان وأنواع جنسه من الحيوان الذي له الإِدراك والإِرادة هي هداية الإِلهام إلى كيفية استعمال ما قدر فيه من المقادير والقوى فيما يناسب استعماله فيه فكلما حصل شيء من آثار ذلك التقدير حصل بأثره الاهتداء إلى تنفيذه.
والمعنى: قدر الأشياءَ كلها فهداها إلى أداء وظائفها كما قدرها لها، فالله لما قدر للإِنسان أن يكون قابلاً للنطق والعِلم والصناعة بما وَهَبَه من العقل وآلات الجسد هداهُ لاستعمال فكره لما يُحصِّل له ما خلق له، ولما قدر البقرةَ للدَّر ألهمها الرَعْي ورِثْمَانَ ولدها لِتَدرَّ بذلك للحالب، ولما قدر النحل لإنتاج العسَل ألهمها أن ترعى النَّور والثمار وألهمها بناء الجِبْح وخلاياه المسدسة التي تضع فيها العسل.
ومن أجلِّ مظاهر التقدير والهداية تقدير قوى التناسل للحيوان لبقاء النوع.
فمفعول (هدى) محذوف لإفادة العموم وهو عام مخصوص بما فيه قابلية الهَدْي فهو مخصوص بذوات الإِدراك والإِرادة وهي أنواع الحيوان فإن الأنواع التي خلقها الله وقدر نظامها ولم يقدر لها الإِدراك مثل تقدير الإِثمار للشجر، وإنتاج الزريعة لتجدد الإِنبات، فذلك غير مراد من قوله: {فهدى} لأنها مخلوقة ومقدرة ولكنها غير مهدية لعدم صلاحها للاهتداء، وإن جعل مفعول {خلق} خاصاً، وهو الإنسان كان مفعول {قدر} على وزانه، أي تقدير كمال قوى الإِنسان، وكانت الهداية هداية خاصة وهي دلالة الإِدراك والعقل.
وأوثر وصفا التسوية والهداية من بين صفات الأفعال التي هي نِعم على الناس ودالة على استحقاق الله تعالى للتنزيه لأن هذين الوصفين مناسبة بما اشتملت عليه من السورة فإن الذي يسوي خلق النبي صلى الله عليه وسلم تسوية تلائم ما خلَقه لأجله من تحمل أعباء الرسالة لا يفوته أن يهيئه لحفظ ما يوحيه إليه وتيسيره عليه وإعطائه شريعة مناسبة لذلك التيسير قال تعالى: {سنقرئك فلا تنسى} [الأعلى: 6] وقال: {ونيسرك لليسرى} [الأعلى: 8].
وقوله: {والذي أخرج المرعى} تذكير لخلق جنس النبات من شجر وغيره.
واقتُصر على بعض أنواعه وهو الكلأ لأنه معاش السوائم التي ينتفع الناس بها.
والمرادُ: إخراجه من الأرض وهو إنباته.
و{المرعى}: النبت الذي ترعاه السوائم، وأصله: إما مصدر ميمي أطلق على الشيء {المَرْعِيّ} من إطلاق المصدر على المفعول مثل الخلق بمعنى المخلوق وإما اسم مكان الرعي أطلق على ما ينبت فيه ويُرعَى إطلاقاً مجازياً بعلاقة الحلول كما أطلق اسم الوادي على الماء الجاري فيه.
والقرينة جعله مفعولاً لـ: {أخرج}، وإيثار كلمة {المرعى} دون لفظ النبات، لما يشعر به مادة الرعي من نفع الأنعام به ونفعها للناس الذين يتخذونها مع رعاية الفاصلة...
والغُثاء: بضم الغين المعجمة وتخفيف المثلثة، ويقال بتشديد المثلثة هو اليابس من النبت.
والأحوى: الموصوف بالحُوَّة بضم الحاء وتشديد الواو، وهي من الألوان: سُمرة تقرب من السواد.
وهو صفة {غثاء} لأن الغثاء يابس فتصير خضرته حُوّة.
وهذا الوصف {أحوى} لاستحضار تغيُّر لونه بعد أن كان أخضر يانعاً وذلك دليل على تصرفه تعالى بالإنشاء وبالإنهاء.
وفي وصف إخراج الله تعالى {المرعى} وجعله {غُثاء أحوى} مع ما سبقه من الأوصاف في سياق المناسبة بينها وبين الغرض المسوق له الكلام إيماء إلى تمثيل حال القرآن وهدايته وما اشتمل عليه من الشريعة التي تنفع الناس بحال الغيث الذي يَنبت به {المرعى} فتنتفع به الدواب والأنعام، وإلى أن هذه الشريعة تكمل ويبلغ ما أراد الله فيها كما يكمل {المرعى} ويبلغ نُضجه حين يصير {غثاء أحوى}، على طريقة تمثيلية مكنية رُمز إليها بذكر لازم الغيث وهو {المرعى}.
وقد جاء بيان هذا الإِيماء وتفصيله بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل ما بَعَثني الله به من الهُدى والعِلم كمثَل الغيث الكثير أصابَ أرضاً فكان منها نَقِيُّةٌ قَبِلَتْ الماء فأنبتت الكلأ والعُشُبَ الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا» الحديث.
ويجوز أن يكون المقصود من جملة: {فجعله غثاء أحوى} إدماج العبرة بتصاريف ما أودع الله في المخلوقات من مختلف الأطوار من الشيء إلى ضده للتذكير بالفناء بعد الحياة كما قال تعالى: {اللَّه الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير} [الروم: 54] للإِشارة إلى أن مدة نضارة الحياة للأشياء تشبه المدة القصيرة، فاستعير لعطف {جعله غثاء} الحرفُ الموضوع لعطف ما يحصل فيه حكم المعطوف بعدَ زمن قريب من زمن حصول المعطوف عليه، ويكون ذلك من قبيل قوله تعالى: {إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام} إلى قوله: {فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس} [يونس: 24].
{سنقرئك فَلَا تنسى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يخفى (7)}.
قد عرفت أن الأمر بالتسبيح في قوله: {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى: 1] بشارة إجمالية للنبي صلى الله عليه وسلم بخير يحصل له، فهذا موقعُ البيان الصريح بوعده بأنه سيعصمه من نسيان ما يُقرئه فيبلِّغُه كما أوحي إليه ويحفظه من التفلت عليه، ولهذا تكون هذه الجملة استئنافاً بيانياً لأن البشارة تنشئ في نفس النبي صلى الله عليه وسلم ترقباً لوعد بخير يأتيه فبشره بأنه سيزيده من الوحي، مع ما فرَّع على قوله: {سنقرئك} من قوله: {فلا تنسى}.
وإذ قد كانت هذه السورة من أوائل السور نزولاً.
وقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعالج من التنزيل شِدة إذا نزل جبريل، وكان ممَّا يحرك شفتيْه ولسانَه، يريد أن يحفظه ويخشى أن يتفلت عليه فقيل له: {لا تحرّك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه} [القيامة: 16، 17]، إنّ علينا أن نجمعه في صدرك وقرآنه أن تقرأه: {فإذا قرآناه فاتبع قرآنه} [القيامة: 18]. يقول: إذا أُنزل عليك فاستمع، قال: فكان إذا أتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما قرأ جبريل كما وعده الله» وسورة القيامة التي منها {لا تحرك به لسانك} نزلت بعد سورة الأعلى فقد تعين أن قوله: {سنقرئك فلا تنسى} وعد من الله بعَونه على حفظ جميع ما يُوحى إليه.
وإنما ابتدئ بقوله: {سنقرئك} تمهيداً للمقصود الذي هو: {فلا تنسى} وإدماجاً للإِعلام بأن القرآن في تزايد مستمر، فإذا كان قد خاف من نسيان بعض ما أُوحي إليه على حين قِلَّته فإنه سيتتابع ويتكاثر فلا يخش نسيانه فقد تكفل له عدم نسيانه مع تزايده.
والسين علامة على استقبال مدخولها، وهي تفيد تأكيد حصول الفعل وخاصةً إذا اقترنت بفعل حاصل في وقت التكلم فإنها تقتضي أنه يستمر ويتجدد وذلك تأكيد لحصوله وإذ قد كان قوله: {سنقرئك فلا تنسى} إقراء، فالسين دالة على أن الإِقراء يستمر ويتجدد.
والالتفات بضمير المتكلم المعظَّم لأن التكلّم أنسب بالإِقبال على المبشَّر.
وإسناد الإقراء إلى الله مجاز عقلي لأنه جاعل الكلام المقروء وآمر بإقرائه.
فقوله: {فلا تنسى} خبر مراد به الوعد والتكفل له بذلك.
والنسيان: عدم خطور المعلوم السابق في حافظة الإنسان برهة أو زماناً طويلاً.
والاستثناء في قوله: {إلا ما شاء اللَّه} مفرّع من فعل {تنسى}، و(ما) موصولة هي المستثنى.
والتقدير: إلا الذي شاء الله أن تنساه، فحذف مفعول فعل المشيئة جريا علي غالب استعماله في كلام العرب، وانظر ما تقدم في قوله: {ولو شاء اللَّه لذهب بسمعهم وأبصارهم} في سورة البقرة (20).
والمقصود بهذا أن بعض القرآن ينساه النبي إذا شاء الله أن ينساهـ.
وذلك نوعان:
أحدهما: وهو أظهرهما أن الله إذا شاء نسخ تلاوة بعض ما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم أمره بأن يترك قراءته فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بأن لا يقرأوه حتى ينساه النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون.
وهذا مثل ما روي عن عمر أنه قال: (كان فيما أنزل الشيخُ والشيخه إذا زنيا فارجموهما) قال عمر: لقد قرآناها، وأنه كان فيما أنزل: (لا تَرغبوا عن ءابائكم فإنَّ كفراً بكم أن ترغبوا عن ءابائكم).
وهذا ما أشير إليه بقوله تعالى: {أو ننسها} في قراءة من قرأ: {نُنْسِها} في سورة البقرة (106).
النوع الثاني: ما يعرض نسيانه للنبي صلى الله عليه وسلم نسياناً موقتاً كشأن عوارض الحافظة البشرية ثم يقيض الله له ما يذكره به.
ففي (صحيح البخاري) عن عائشة قالت: «سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يقرأ من الليل بالمسجد فقال: يرحمه الله لقد أذكَرَنِي كذا وكذا آيةً أسقطتهن أو كنت أنسيتُها من سورة كذا وكذا، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقط آية في قراءته في الصلاة فسأله أبَيّ بن كعب أُنسِخَتْ؟ فقال: نسيتُها».
وليس قوله: {فلا تنسى} من الخبر المستعمل في النهي عن النسيان لأن النسيان لا يدخل تحت التكليف، أمَّا إنه ليست (لا) فيه ناهية فظاهر ومن زعمه تعسف لتعليل كتابة الألف في آخره.
وجملة: {إنه يعلم الجهر وما يخفى} معترضة وهي تعليل لجملة: {فلا تنسى إلا ما شاء الله} فإن مضمون تلك الجملة ضمان الله لرسوله صلى الله عليه وسلم حفظ القرآن من النقص العارض.
ومناسبة الجهر وما يخفى أن ما يقرؤه الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن هو من قبيل الجهر فالله يعلمه، وما ينساه فيسقطه من القرآن هو من قبيل الخفيّ فيعلم الله أنه اختفى في حافظته حين القراءة فلم يبرز إلى النطق به. اهـ.